سورة القلم - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (القلم)


        


يقول الحق جلّ جلاله: {ن}، هو من جملة الرموز، ك {ص} و{ق}، وكأنه والله أعلم يُشير إلى ما خصّ به نبيَّه من أسرار النبوة والخلافة، أي: نبأناك ونبَّهناك ونوّبناك خليفة عنا، أو نوّهنا بك في مُلكنا وملكوتنا، أو: أيها النبي المفخّم، والرسول المعظّم، وحق نون والقلم ما أنت بمجنون. وقيل: مختصر من نور وناصر ونصير، وقيل: من الرحمن، لكن ورد في الحديث: «أول ما خلق اللهُ القلم، ثم خَلَقَ النون»، وهو الدواة، وذلك قوله: {ن والقلم} فإن صَحّ الحديث فهو أولى في تفسير الآية، وقد رُوي عن ابن عباس وغيره، في تفسير الآية: أنه الدواة والقلم الذي بأيدي الناس، ورُوي عن ابن عباس أيضاً: أنه الحوت الأعظم، الذي عليه الأرضون السبع.
قال الكلبي ومقاتل: اسمه يهموت بالياء وقيل: ليُوثا، وقيل: باهوتا. رُوي: أنّ الله تعالى لمّا خلق الأرض وفَتَقَها، بعث مِن تحت العرش ملكاً، فهبط إلى الأرض حتى دخل تحت الأرضين السبع، فوضعها على عاتقه، إحدى يديه بالمشرق، والأخرى بالمغرب، باسطتين، قابضتين على الأرضين السبع، فلم يكن لقدميه موضع قرار، فأهبط الله من الفردوس ثوراً، له أربعون ألف قرنٍ، وأربعون ألف قائمة، وجعل قرار قدم الملك على سنامه فلم تستقر قدماه، فأهبط الله ياقوتة خضراء من أعلى درجة في الفردوس، غلظها خمسمائة عام، فوضعها على سنام الثور إلى أذنه، فاستقرت قدما المَلك عليه، وقرون ذلك الثور خارجة من أقطار الأرض، ومنخاره في البحر، فهو يتنفس كل يوم نفساً، فإذا تنفّس مدَّ البحرُ، وإذا هدأ نَفَسُه جزرَ البحر، فلم يكن لقوائم الثور موضع قرار، فخلق الله صخرة خضراء، كغلظ سبع سموات وسبع أرضين، فاستقرت قوائم الثور عليها، وهي الصخرة التي قال لقمان لابنه: {فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ} [لقمان: 16] الآية، فلم تستقر الصخرة، فخلق الله نوناً وهو الحوت العظيم فوضع الصخرة على ظهره، وسائر جسده عارٍ، والحوت على البحر، والبحر على متن الريح، والريح على القدرة الأزلية، يُقلُّ الدنيا بما فيها حرفان «كن فيكون». اهـ. من الثعلبي، وهذا من باب عالَم الحكمة، وإلاّ فما ثَمَّ إلا تجليات الحق وأسرار الذات، والصفات الأزلية. وتفسير {ن} بهذا الحوت ضعيف.
قال ابن جزي: ويُبطل قول مَن قال: إنه الحوت أو الدواة، بأنه لو كان كذلك لكان مُعرباً، ولَكَان في آخره تنوين، فكونه موقوفاً دليل على أنه حرف هجاء، نحو: {الام} وغيره. اهـ.
ثم أقسم بالقلم، فقال: {والقلم وما يسطرون}، قيل: هو القلم الذي كتب اللوح المحفوظ، فالضمير في {يسطرون} للملائكة، وقيل: القلم المعروف عند الناس، أقسم له بِما فيه من المنافع والحِكم.
قال ابن الهيثم: من جلالة القلم أنه لم يكتب الله كتاباً إلا به، ولذلك أقسم به. الأقلام مطايا الفِطن ورسل الكرام، وقيل: البيان اثنان: بيان لسان، وبيان بَنَان، ومِن فضل بيان البنان أنَّ ما تبيَّنته الأقلام باق على الأيام، وبيان اللسان تدْرُسه الأعوام، ولبعض الحكماء: قِوام أمور الدين والدنيا: القلم، والسيف تحت القلم. وأنشد بعضهم في هذا المعنى:
قَلَمٌ مِنَ القَصَبِ الضَّعيف الأجْوفِ *** أَمضَى من الرُّمْح الطويل الأهيَفِ
ومِن النِّصال إذا انْبَرَتْ لِقسِيِّها *** ومِن المُهَنَّد في الصِّقال المُرْهَفِ
وأَشَدُّ إِقدَاماً من الليْثِ الذي *** يَكْوِي القُلوبَ إذا بدا في الموقِفِ
وقال آخر:
قَوْمٌ إذا عَرَفوا عَداوةَ حَاسِدٍ *** سَفَكُوا الدِّمَا بأَسِنَّةِ الأَقْلامِ
ولَضَرْبَةٌ مِن كاتبٍ بِبَنَانِهِ *** أَمْضَى وأَبْلَغُ من رقيق حُسَامِ
فالضمير في {يَسْطُرون} على هذا لبني آدم، فالضمير يعود على الكتبة المفهومة من القلم اللازمة له.
ثم ذكر المقسَم عليه، فقال: {ما أنت بنعمةِ ربك بمجنونٍ} أي: ليس بك جنون كما يزعمه الكفرة، ف {بنعمة ربك}: اعتراض بين {ما} وخبرها، كما تقول: أنت بحمد الله فاضل، وقيل: المجرور في موضع الحال، والعامل فيه معنى النفي، كأنه قيل: أنت بريء من الجنون، ملتبساً بنعمة ربك، التي هي النبوة والرسالة. والتعبير بعنوان الربوبية المنبئة عن التبليغ إلى معاريج الكمال، مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم لتشريفه عليه السلام والإيذان بأنه تعالى يُتم نعمته عليه، ويُبلغه من العلو إلى غاية لا غاية وراءه، والمراد: تنزيهه عليه السلام عما كانوا ينسبونه من الجنون حسداً وعداوة ومكابرة، مع جزمهم بأنه صلى الله عليه وسلم في غاية الغايات القاصية، ونهاية النهايات الثابتة من حصافة العقل، ورزانة الرأي. {وإِنَّ لك} في مقابلةِ مقاساتك ألوان الشدائد من جهتهم، وتحمُّلك لأعباء الرسالة {لأجراً} عظيماً لا يُقادَر قدره {غيرَ ممنونٍ}؛ غير مقطوع، أو: غير ممنون به عليك من جهة الناس، بأن أعطاه تعالى لك بلا واسطة.
{وإنك لعلى خُلُقِ عظيم} لا يُدْرِك شأوَه أحدٌ مِن الخلق، ولذلك تَحْتَمِل من جهتهم ما لا يحتمله أحد من البشر. وسُئلت السيدة عائشة رضي الله عنها عن خلقة صلى الله عليه وسلم، فقالت: كان خُلقه القرأن، ألست تقرأ القرآن: {قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون...} [المؤمنون: 1] الآية. وقيل: المراد: التأدُّب بآداب القرآن، بامتثال أمره واجتناب نهيه.
قال ابن جُزي: وتفصيل ذلك: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم جمع كل فضيلة، وحاز كل خصلة جميلة، فمن ذلك: شرف النسب، ووفور العقل، وكثرة العلم والعبادة، وشدة الحياء، والسخاء، والصدْق، والشجاعة، والصبر، والشكر، والمروءة، والتوءدة، والاقتصاد، والزهد، والتواضع، والشفقة، والعدل، والعفو، وكظم الغيظ، وصلة الرحم، وحُسن المعاشرة، وحسن التدبير، وفصاحة اللسان، وقوة الحواس، وحسن الصورة، وغير ذلك، حسبما ورد في أخباره وسِيرَه صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال: «بُعثت لأتمم مكارمَ الأخلاق»، قال الجنيد: سُمي خُلقه عظيماً؛ لأنه لم تكن له همة سوى الله عزّ وجل. اهـ. والخُلق: السجية والطبع. قال في القاموس: الخُلْق بالضم وبضمتين: السجية، والطبع، والمروءة والدين. اهـ.
وعرَّف بعضهم حقيقة الخُلق، فقال: مَلكة للنفس، تصدر عنها الأفعال بسهولة، من غير فكر ولا رَوية، فخرج الصبر؛ لأنه بصُعوبة، والفكرة؛ لأنها تكون بروية، ثم ينظر في تلك الأفعال الصادرة عن تلك المَلكة؛ فإن كانت سيئة، كالغضب، والعَجَلة، والكِبر، والفظاظة، والغلظة، والقسوة، والبُخل، والجُبن، وغير ذلك من القبائح، سُمي خُلقاً سيئاً، وإن كانت تلك الأفعال حسنة، كالعفو، والحلم، والجود، والصبر، والرحمة، ولين الجانب، وتحمل الأذى، سُمي خلقاً حسناً، الذي اتصف به صلى الله عليه سلم على أكمل الوجوه، ومَدَحه بقوله: «ما من شيء يوضع في الميزان أثقل من حسن الخلق، وإن صاحب حسن الخلق يبلغ درجة الصائم القائم» وبقوله: «أفضل ما أُعطي المرء الخلق الحسن» في أحاديث كثيرة. وبالله التوفيق.
الإشارة: قد يُقال: أشار بقوله: {ن} إلى سرعة إنفاذ أمره بين الكاف والنون، ثم أقسم بالقلم على تنزيه نبيه من الجنون، ويُقال مثل ذلك لخلفائه، إذا رُمُوا بالجنون أو السحر أو سخافة العقل، ويُقال لهم في إرشاد الناس وتذكيرهم ما قيل لنبيّهم: {وإِنَّ لك لأجراً غير ممنون وإنك لعلى خلق عظيم}، فحُسن الخلق دليل على ثبوت الخصوصية، وعدمه دليل على عدم وجودها؛ لأنّ الخمرة إذا دخلت القلب والروح هَذّبت أخلاقهما، وطهّرت أكدارهما، وما تُبقي إلاَّ الذهب الإبريز.
وقال شيخ شيوخنا، سيدي عبد الرحمن العارف: كان صلى الله عليه وسلم على خُلقٍ عظيم؛ لشرح صدره بالنور، كما قال تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح: 1]، ولحديث شرح صدره وشقه وتطهيره، ونزع حظ الشيطان منه، ثم إفراغ الحكمة والنور فيه، حتى مُلىء بذلك، فكان شيئاً محضاً لله تعالى، لا تعلُّق له بغيره، فناسب القرأن، وصار خُلقاً له، منقوشاَ فيه، من غير روية، ولا تكسب في ذلك، بل طُبع على ذلك، وسرى فيه أمر الوحي، وجرى على مقتضاه في جميع أحواله، ولذلك تجد السُنة مشرعة من القرآن، وخارجة منه خروج اللبن من الضرع، والزبد من اللبن، فصار متخلّقاً بالقرآن، وفي الحقيقة متخلّقاً بخُلق الله، ومظهرَ أوصافه، ومجلاة سره وشأنه، {إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله} [الفتح: 10] الآية، ومَن رآه فقد رأى الحق. والله أعلم. اهـ. فعائشة رضي الله عنها احتشمت وسترت حيث عبّرت بالقرآن، ولم تقل كان خلقه خلق الرحمن.


يقول الحق جلّ جلاله: {فسَتُبْصِرُ} يا محمد {ويُبصرون} أي: كفارُ قريش عاقبةَ أمرك وأمرهم، أو: مَن هو المجنون منكم. قال ابن عباس رضي الله عنه: فستعلم ويعلمون يوم القيامة حين يتبيّن الحق من الباطل. اهـ. وقيل: في الدنيا بظهور عاقبة أمرك بظهور الإسلام، واستيلائك عليهم بالقتل والنهب، ويبصرونك مُهاباً معظّماً في قلوب العالمين، وكونهم أذلةً صاغرين. قال مقاتل: هذا وعيد بعذاب يوم بدر.
والباء في قوله: {بأيِّكم المفتونُ} قيل: زائدة، أي: تُبصرون أيكم المفتون، أي: المجنون، وقيل: غير زائدة، أي: بأيكم الفتنة، فالمفتون مصدر، كقولهم: ما لك معقول، أي: عقل، وقيل: الباء بمعنى في، أي: في أي فريق منكم المفتون، هل في فريق المؤمنين أم المشركين؟ والآية تعريض بأبي جهل، والوليد بن المغيرة، وأضرابهما، وتهديد، كقوله تعالى: {سَيَعْلَمُونَ غَداً مَّنِ الكذاب الأشر} [القمر: 26].
{إِنَّ ربك هو أعلمُ بمَن ضلَّ عن سبيله} تعليل لمضمون ما قبله، من ظهور جنونهم، بحيث لا يخفى على أحد، وتأكيد لِما فيه من الوعد والوعيد، أي: هو أعلم بمَن ضلّ عن طريقه الموصلة إلى سعادة الدارين، وبمن هو في تيه الضلال، متوجهاً إلى ما يسوقه إلى الشقاوة الأبدية، وهذا هو المجنون الذي لا يُفرّق بين الضرر والنفع، بل يحسب الضررَ نفعاً فيؤثره، والنفعَ ضرراً فيهجره، {وهو أعلمُ بالمهتدين} إلى سبيله، الفائزين بكل مطلوب، الناجين من كل مرهوب، وهم العقلاء المراجيح، فيجزي كُلاًّ من الفريقين حسبما يستحقه من العقاب والثواب. وإعادة {هو أعلم} لزيادة التقرير.
وإذا تقرّر أنك على الهدى، ومُكَذَبوك على الضلال {فلا تُطع المكذِّبين}، فالفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي: دُم على ما أنت عليه، من عدم طاعتهم، وتَصَلّبْ في ذلك. وهذا تهييج للتصميم على عصيانهم، وقد أرادوه على أن يعبدوا الله مدة، ويعبد آلهتهم مدة، ويكفُّوا عنه غوائلهم، فنهاه عن ذلك، أو: نُهي عن مداهنتهم ومداراتهم، بإظهار خلاف ما في ضميره صلى الله عليه وسلم؛ استجلاباً لقلوبهم. {وَدُّوا لو تُدْهِنُ}؛ لو تلين لهم {فيُدْهِنُون}؛ فيلينون لك، ولم ينصب بإضمار أن مع أنه جواب التمني؛ لأنه عدل به إلى طريق آخر، وهو أن جعله خبر مبتدأ محذوف، أي: فهم مدهنون، أي: فهم الآن يُدهنون لطمعهم في إدهانك، فليس داخلاً في حيّز تمنيهم؛ بل هو حاصل لهم، وفي بعض المصاحف: {فيدهنوا} على أنه جواب التمني.
{ولا تُطعْ كلَّ حلاّفٍ}؛ كثير الحلف في الحق والباطل، وكفى به زجراً لمَن يُكثر الحلف، {مَهِينٍ}؛ حقير في الرأي والتدبير، من المهانة، وهي القلة والحقارة، أو: كذَّاب؛ لأنه صغير عند الناس، {هَمَّازٍ}؛ عيّابٍ طعَّان مغتاب {مشَّاء بنميم}؛ نقّال للحديث من قوم إلى قوم، على وجه السِّعاية والفساد بينهم، فالنميم والنميمة: السعاية في إفساد ذات البيْن، {مناعٍ للخير}؛ بخيل، والخير: المال، أو: منّاع أهلَه من الخير، وهو الإسلام، والمراد: الوليد بن المغيرة، عند الجمهور، وكان يقول لبنيه العشرة: مَن أسلم منكم منعته رفدي.
ه {مُعْتَدٍ}؛ مجاوز في الظلم حدّه، {أثيمٍ}؛ كثير الإثم، {عُتُلٍّ}؛ غليظ جافٍ، مِن عتله: إذا قاده بعنف وغلظةٍ، {بعد ذلك}؛ بعدما عدّ له من المثالب {زنيمٍ}؛ دَعِيّ، أي: ولد زنا، وكان الوليد دَعِياً في قريش، ليس من سِنْخهم، ادّعاه أبوه المغيرة بعد ثماني عشرة سنة من مولده، وقيل: بغَت أمه ولم يعرف حتى فضحته الآية: والنطفة إذا خبثت خبث الناشىء عنها. رُوي: أنه دخل على أمه، وقال لها: إنَّ محمداً وصفني بشعرة أوصاف، وجدت تسعة فِيّ، فأما الزنيم فلا علم لي به، فإن أخبرتني بحقيقته، وإلاّ ضربت عنقك، فقالت: إنَّ أباك عنّين، وخفتُ أن يموت، فيصل المال إلى غير ولده، فدعوت راعياً، فأنت من ذلك الراعي. اهـ. وقيل: هو الأخنس بن شريق، أصله من ثقيف، وعِدادُه في بني زهرة.
{أن كان ذا مالٍ وبنينَ}: متعلق بقوله: {لا تُطع} أي: لاتُطع مَن هذه مثالِبه لأن كان صاحب مال وبنينَ مستظهراً بهم، فإنه حظه من الدنيا، وقيل: متعلق بما بعده، أي: لأن كان ذا مال وبنين كذّب بآياتنا، يدل عليه قوله تعالى: {إذا تُتلى عليه آياتُنا} أي: القرآن {قال أساطيرُ الأولين} أي: أكاذيب المتقدمين، ولا يعمل فيه {قال}؛ لأنّ ما بعد الشرط لا يعمل فيما قبله. ومَن قرأ بكسر إن فشرط حُذف جوابه، أي: إن كان ذا مال فلا تُطعه، والمعنى: لا تُطع كل حلاّف شارطاً يَسَارَه. قيل: لمّا عاب الوليدُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كاذباً بأمر واحد، وهو الجنون، سمّاه اللهُ تعالى صادقاً بعشرة أسماء، فإذا كان مِن عدله أن يجزي المسيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشر، كان من فضله أن يجزي المُصلِّي عليه أو المادح له بعشر فأكثر.
{سَنَسِمُه على الخرطوم}؛ سنعلِّمه على أنفه بالكي بالنار إهانةً له، وتخصيص الأنف بالذكر؛ لأنَّ الوسم عليه أبشع، وقيل: خطم بالسيف يوم بدر، فبقيت سمة على خرطومه، وفيه نظر إذا قلنا هو الوليد، فإنه مات قبل بدر، لأنه من المستنصرين الخمسة، وقد ماتوا كلهم قبل وقعة بدر، وقيل: سنعلمه يوم القيامة بعلامة يُشوه بها من بين سائر الكفرة.
الإشارة: فستُبصر أيها العارف، والمتوجّه إلى الله، ويُبصر أهل الانتقاد من أهل الغفلة، أيكم المفتون، هل أنتم حين اجتمعت قلوبكم بالله، وجعلتم الهموم هَمًّا واحداً، فكفاكم الله همّ دنياكم، أو: هُم الذين تفرّقت قلوبهم، وتشعّبت همومهم، حتى ماتوا في أودية الفتن، فلم يُبالِ الله بهم في أيّ أودية الدنيا هلكوا، كما في الأثر.
إن ربك هو أعلم بمَن ضَلّ عن طريقه الموصلة إليه، وهو أعلم بالمهتدين إليها، السائرين فيها، حتى وصلوا إلى حضرة قدسه، فلا تُطع أيها المتوجّه المكذّبين لهذه الطريق، ودُّوا لو تلينون إليهم، وتشاركونهم فيما هم فيه من الحظوظ، فيميلون إليكم، طمعاً فيكم أن يصرفوكم عن طريق الجد والاجتهاد، ولا تُطع كل حلاّف مهين، قال القشيري: مّهين: هو الذي سقط من عيننا، فأقمناه بالبُعد عنا، همّاز مشاء بنميم، مُعذَّب بالوقيعة في أوليائنا. اهـ.
قال بعضهم: بُحث عن النمَّام فلم يوجد إلا ابن الزنا، واستدل بالآية في قوله: {بعد ذلك زنيم}. وقوله تعالى: {منَّاعٍ للخير}، وضده من أخلاق الصوفية، وهو أن يكون وصّالاً للخير لعباد الله، حسًّا ومعنىً، {معتد أثيم} وضده: كثير الإحسان والطاعة، {عُتل} وضده: سهل لين، {بعد ذلك زنيم} أي: لقيط، لا أب له، وكل مَن لا شيخ له يصلح للتربية فهو لقيط، لا أب له، فلا يصلح للاقتداء كما لا يؤم الناسَ ابنُ الزنا، وقوله تعالى: {أن كان ذا مال وبنين إِذا تُتلى عليه آياتنا قال...} إلخ. أي: إنما حمله على التكذيب طغيانه بالمال، وهذه عادته تعالى: أنَّ المترفين لا ينالون من طريق السابقين شيئاً إلاَّ النادر. والله تعالى أعلم.


يقول الحق جلّ جلاله: {إِنَّا بلوناهم}؛ أهل مكة، أي: امتحنّاهم بالقحط والجوع، حتى أكلوا الجِيفَ الرِّممَ، بدعاء النبي صلى الله عليه سلم حيث قال: «اللهم اشدُدْ وطأتَك على مُضَرَ، واجعلها عليهم سِنينَ كسِني يوسفَ» {كما بلونا أصحابَ الجنةِ}، وهم قوم من أهل الصلاة، قيل: كانوا مؤمنين، أهل كتاب، بعد رفع عيسى عليه السلام وكانوا ب ضرْوان على فراسخ من صنعاء اليمن. قال ابن جزي: كانوا من بني إسرائيل. اهـ. والجنة، قال ابن عباس: هو بستان، يقال له: الضّروان، دون صنعاء بفرسخين، يطؤه أهل الطريق، كان غَرَسه رجل من أهل الصلاح، فورثه ثلاثة بنين، فإذا أصرموه كان للمساكين كل ما تعدّاه المنجل والقِطاف، فإذا طرح من فوق النخل إلى البساط، فكل شيء سقط عن البساط؛ فهو للمساكين، فكان أبوهم يتصدّق منها على المساكين، فكان يعيش من ذلك في حياة أبيهم اليتامى والأرامل والمساكين، وفي رواية: كان يأخذ قوت سنة، ويتصدّق بالباقي، وكان ينادي على الفقراء وقت الصرام، فلما مات أبوهم؛ قالوا: لقد قلَّ المال، وكثر العيال، فتحالفوا بينهم ليغدوا غدوة قبل خروج الناس، ويصرمونه، ولا يشعر المساكين، وهو قوله تعالى: {إِذْ أقسَموا}؛ حلفوا {لَيَصْرِمُنَّهَا مصبحين}؛ ليقطفنّها داخلين في الصباح، قبل انتشار الفقراء، {ولا يستثنون}؛ لا يقولون إن شاء الله، وسمي استثناء، وإن كان شرطاً صورةً؛ لأنه يؤدي مؤدّى الاستثناء؛ لأنّ قولك: لأخرجنّ إن شاء الله، و: لا أخرج إلاّ أن يشاء الله، واحدٌ، أو: لا يستثنون؛ حصة المساكين، كما كان يفعل أبوهم.
{فطاف عليها} أي: على الجنة {طائف من ربك} أي: نزل عليها بلاء من جهته تعالى، قيل: أنزل الله عليها ناراً فأحرقتها، وقيل: طاف بها جبريل، لأنه الموكل بالخسف، فاقتلعها، وطاف بها حول البيت، ثم وضعها بالطائف، وليس بمكة وما قرب منها بستان غيرها، وهي مدينة الطائف. انظر اللباب. {وهم نائمون} أي: في حال نومهم، أو: غافلون عما جرت به المقادير، {فأصبحتْ} أي: فصارت الجنة {كالصَّرِيم}؛ كالبستان الذي صرمت ثماره، بحيث لم يبقَ فيها شيء، وقيل: كالليل المُظلم، احترقت فاسودّت، أو: كالصبح، أي: صارت أرضاً بيضاء بلا شجر. وفي القاموس: الصريم: الأرض المحصود زرعها، والصبح والليل. اهـ.
{فَتَنَادَوا} أي: نادى بعضُهم بعضاً {مصبحين}؛ داخلين في الصباح: {أَنِ اغْدوا} أي: اخرجوا غدوه {على حَرْثِكم}؛ بستانكم وضيعتكم، وتعدية الغدو ب على لتضمنه معنى الإقبال والاستيلاء، {إِن كنتم صارمين}؛ قاصدين الصرم. {فانطلقوا وهم يتخافتون}؛ يتساررون فيما بينهم بطريق المخافتة، لئلا يسمع المساكين {أن لا يدخلنَّها} أي: الجنة، و{أن} مفسرة، أي: قائلين في تلك المخافتة: لايدخلنها {اليومَ عليكم مسكين}، والنهي عن دخول المساكين نهي عن التمكين على وجه المبالغة، أي: لا تُمكنوهم من الدخول.
{وغَدَوا على حَرْدٍ}؛ على جِدٍّ في المنع {قادرين} عند أنفسهم على المنع، كذا عن نفطوية، من قولهم: حردت الإبل إذا قلَّت ألبانها فمنعتها، وحاردت السنة إذا كانت شهباء، من قلة مطرها، أو: الحرد: القصد والسرعة، يقال: حَرَدَ حَرْده، أي: قصد قصده، قال الشاعر:
أقْبَلَ سَيْلٌ جاء من أَمْرِ الله *** يَحْرِدُ حَرْدَ الجَنةِ المُغِلَّهْ
أي: يقْصد قصدها، أي: وغدوا قاصدين إلى جنتهم بسرعة قادرين على صِرامها عند أنفسهم، وقيل: معنى الحرد: الغضب، يقال: حَرِدَ الرجل حَرْداً: غضب، أي: غدوا على غضبٍ على المسكين قادرين على المنع، أو على صِرامها في زعمهم، وقيل: الحرد: اسم للجنة، أي: غدوا على تلك الجنة قادرين على صِرامها عند أنفسهم.
{فلما رَأَوها} أي: جنتهم محترقة {قالوا إِنَّا لضالون} أي: ضللنا جنتنا، وما هي بها، لِما رأوا من هلاكها، فلما تأمّلوا وعرفوا أنها هي، قالوا: {بل نحن محرومون}؛ حُرمنا خيرها بجنايتنا على أنفسنا، {قال أوسطُهم} أي: أعدلُهم وخيرُهم رأياً، أو: أكبرهم سنًّا: {ألم أقل لكم لولا تُسبِّحون}؟ تذكرون الله وتتوبون إليه من خبث نياتكم، وقد كان قال لهم حين عزموا على ذلك: اذكروا الله، وتوبوا إليه من هذه الجريمة الخبيثة من فوركم، وسارِعوا إلى حَسْم شرها قبل حلول النقمة، فَعَصوه. وقيل: المراد بالتسبيح: الاستثناء؛ لأنه تعظيم لله تعالى في الجملة؛ لأنَّ الاستثناء تفويض إليه، والتسبيح تنزيه، وكل واحد من التفويض والتنزيه تعظيم، والأول أنسب بقوله: {قالوا سبحان ربنا إِنَّا كنا ظالمين} فيما عزمنا عليه من المنع، أو: في عدم الاستثناء، فتكلّموا بعد نزول العذاب بما كان يدعوهم إلى التكلُّم به قبل نزوله.
{فأقبل بعضُهم على بعض يتلاومون} أي: يلوم بعضُهم بعضاً بما فعلوا من الهرب من المساكين، ويُحيل كلُّ واحد منهم اللائمة على الآخر، ثم اعترفوا جميعاً بأنهم تجاوزوا الحد بقوله: {قالوا يا ويلنا إِنَّا كنا ظالمين}؛ متجاوزين حدود الله بمنع الفقراء حقهم، وتَرْكِ الاستثناء، {عسى ربُّنا أن يُبْدلنا خيراً منها} أي: يعطينا خيراً من جنتنا ببركة التوبة والاعتراف بالخطيئة، {إِنَّا إِلى ربنا راغبون}؛ طالبون منه الخير، راجون العفو منه. وعن مجاهد: ثابوا فأُبدلوا خيراً منها، وعن ابن مسعود رضي الله عنه: بلغني أنهم أخلصوا، فأبدلهم الله جنة تُسمى الحيوان، فيها عنب يحمل البغل منه عنقوداً، وعن أبي خالد اليماني أنه رآها، ورأى كل عنقود منها كالرجُل الأسود القائم، وقد تقدّم أنهم مؤمنون، إمّا من بني إسرائيل أو غيرهم، فلا معنى لمَن توقف في قولهم: {إِنَّا إِلى ربنا راغبون} هل يكون إسلاماً أم لا؟ نعم، قد قيل: إنهم كانوا كفاراً، فيحتمل أن يكون قولهم هذا إسلاماً، أو يكون على حد ما يكون من المشركين إذا أصابتهم شدة.
قال تعالى: {كذلك العذابُ} أي: مثل ذلك العذاب الذي ذكرناه في حق أصحاب الجنة هو عذاب الدنيا لمَن تخالف أمرنا، ولم يشكر نِعمنا، {ولَعذابُ الآخرة أكبرُ}؛ أعظم منه وأشد، {لو كانوا يعلمون} أنه أكبر لا حترزوا عما يؤديهم إليه.
قال الطيبي: قال الإمام أي الفخر: المقصود من القصة أنه تعالى قال: {أن كان ذا مال وبنين إِذا تُتلى عليه آياتنا قال...} الخ؛ أي: لأجل أن أعطاه الله المال والبنين كفر بالله إنما أعطاه ذلك للابتلاء، فإذا صرفه إلى الكفر دمّر الله عليه؛ لأنّ أصحاب الجنة لَمَّا أَتوا بهذا القدر اليسير من المعصية، دمَّر الله على جنتهم، فكيف حال مَن عاند الرسولَ، وأصرّ على الكفر والمعصية؟ أو: لأنَّ أصحاب الجنة خرجوا لينتفعوا بالجنة، ويمنعوا الفقراء منها، فقلب الله عليهم القضية، فكذا أهل ممكة، حَردُوا إلى بدر أرادوا الكيد بمحمد وأصحابه صلوات الله عليه فأخلف الله ظنّهم، فقُتلوا وأُسروا. اهـ.
الإشارة: مَن كان يفعل الإحسان، ويُوسع في العطاء، ثم قبض يده، فإنَّ الله يقبض فيضه عنه، كما قبض هو إحسانه عن عباده، فما دام يُوسّع فإنَّ الله يُوسّع عليه، فإذا قبض قبض الله عنه، {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ} [الأنعام: 139]، وكذلك مَن خالف عادة أسلافه في العطاء وشدّ يده؛ فإنَّ الله يُخالف عنه ما كان يفعل مع أسلافه، من فَيْض الأرزاق الحسية أو المعنوية، فإن تاب ورجع إلى فعل ما كان عليه أسلافه؛ أعاد الله عليه إحسانه، كما فعل بأصحاب الجنة حين تابوا، وهذا صريح الآية، وتَصْدق أيضاً بمَن كان يُنفق من سعة علومه ومواهبه، ثم قبض ذلك من غير عذر، فإنَّ الله تعالى يقبض عنه زيادة المواهب، وربما يطوف على باطنه طائف من الله، فيُصبح خالياً من ثمار المواهب، حتى يتوب ويرجع إلى ما كان عليه، وبالله التوفيق.

1 | 2